كنت أحارب العالم بداخلي وخارجي. أحارب نفسي وأفكاري وهذه أخطر وأكبر قوة على الإطلاق! أحارب ما يقابلني من سوء وقبح وجهالة. كنت أدور في دوائري متخبطة ويزداد طريقي عتمة، كنت أحاول التمسك بشيء ليرشدني وأن أحاول العبور بخفة، حاولت أن أفكك رابطة الخيوط، أن أخفض الأصوات برأسي وكلما جن علي الليل أجدها تعبث بي مجددا!
كنت أتفاعل كما الالات حتى أقاوم السقوط! لا أشعر بمرور الوقت، لا أتذوق الطعام، لا أفكر في الكلمات! وبرغم كل محاولاتي لم يهدأ إحساسي بالوحشة والغرابة! كل ما كنت أتمناه كان السلام وأن تهدأ تلك الأصوات برأسي، حتى أتمكن من عبور العاصفة! حاولت إغلاق كل النوافذ والأبواب كي أنعم بالأمان والدفء، حتى تسللت إلى الظلمة واعتنقتها أنا مستسلمة!
أصبحت أؤرخ حياتي بلحظات التعاسة فقط! اللحظة التي فقدت فيها إيماني الساذج بالبشر. اللحظة التي فقدت فيها ثقتي بالآخرين، كل الآخرين! اللحظة التي أدركت فيها أن عشرتي وموضع ثقتي لا تراني سوى فترة ستنتهي عاجلا أم آجلا! اللحظة التي أدركت فيها أني قد عشت ثلاثين عاما مثقلة بهموم معاركي الخاسرة! كنت أعيد تكرارها علي نفسي وأزيد في جلدها، لم يعد لي منها مهربا، كنت أنا عدوتها الأولى!
كنت أقاوم وأقاوم كثيرا، ويزداد غضبي وجنوني من عدم قدرتي علي فهم هذا العالم أو هؤلاء البشر!
تساوت عندي الألوان كلها وأصبحت لا أعلم من المخطئ ومن المصيب؟ الجحيم هم الآخرون أم أنه هنا بداخلي أنا؟
كنت أتضرع لله حتى ينقذني من غياهب نفسي، ولكنني كلما نظرت للسماء لم أجد إلا الصمت! كنت حزينة. حزينة جدا والصمت حطمني وزادني الماً، حتى ظننت أن الله لا يحبني من فرط الألم.
تمكنت مني نوبات الاكتئاب والقلق وأصابتني في معاقل مخاوفي وتركتني أحتضر، لم يعد الأمر مقتصرا على عقلي، كنت أشعر بها في جسدي أيضا، تمتص مني أنفاسي، تجعلني عاجزة عن الحركة، عن النوم، عن التفكير! كنت أشعر بكل شيء دفعة واحدة ثم أصاب بالخدر وأصبح بلا حساسية ولا صلة بهذا العالم! كانت تركتني وأنا أتمنى أن الموت، أتمنى أن أكون نسيا منسيا. العالم مؤلم وخاو، وأنا لا أسعى للفوز بشيء هنا! هذه ليست معركتي!
كنت أدعوه حتى يفك رابطي الأخير بالحياة! لا أريدها ولا تريدني بدورها!
يا الله هلا أدركتني بلطفك! أنت تعلم أنني حاولت وهذا كل ما لدي، هل هذا يكفي؟!
يا إلهي الرحيم، أنا أريد البقاء ولكن خارطة الطريق ضاعت. أقاتل يا الله حتى أجدها! والله أنى أقاتل!
يا إلهي، أبقي رأسي فوق الماء لا تدعني أغرق، أعدك سأطلب المساعدة.
ولأنه لطيف بعباده، ولأنه احن، تدخل بلطفه وغلب خوفي! وأرسلني لها أو أرسلها لي!
مر عاما وبعده عاما آخر ونحن نعمل معا علي تفكيكي وأعاده ربطي بالأشياء والعالم مرة أخرى!
عدنا معا للبداية، حيث جلست تلك الصغيرة بداخلي وحيدة وصامتة، مختبئة خلف حوائط متعددة من الخذلان والغضب، قامت ببنائها على مدار السنين! كانت تتألم بما عانت به من صدمات وجروح، ومع مرور الوقت فقدت قدرتها علي الصراخ والتزمت الصمت! لم تكن غاضبة فعلا! لكنها حزينة جدا وضائعة. انفطر قلبي لحزنها ولما تحمله من مراره! وقررت لأول مرة أن أترك أموري كلها واحتضنها هي فقط!
أعتقد أن مقاومة العالم بأكمله لا تساوي شيئا أمام مقاومة تلك الصغيرة العنيدة وما يدور في رأسها! ولكنني هذه المرة لم أقاومها، احتضنتها وبكيت كثيرا وتعلمت أخيرا ان أحبها!
امتدت حبال الود بيننا وملأتها بالجوار الرحيم، واسع الفهم ورحب الأفق، حتى أصبحت لا يحول بيني وبينها الفزع! فوالله ما لمست في نفسي سوى المستباح والمستقر بعد العناء.
ننسى كثيرا أن المسير شاق وان الحمل ثقيلا، وان كل الأشياء لا مفر من حدوثها وهذا عهد الدنيا.. وإن الله قد أمرنا بالاهتمام بالنفس وليس الجسد فقط حتى ننجو! لذلك نحن نتعلم بالطريقة الصعبة، انه لا مفر من تجاهل مشاعرنا. وأن علينا ان ندرك أنها رُسل، يجب علينا الإنصات لرسالتها والاستجابة لدعواتها.
فغضبي علمني أن أوازن بين واقعي وبين طموحي وتوقعاتي، وأن أرسم حدودي الآمنة. فأصبحت أقل غضباً وحدة.
حزني أخبرني بسعة إحساسي وعمق مبالاتي بمن حولي وبهذا العالم ككل. فأصبحت أصدق أني لي قلب طيب يحب ويغفر!
حتى قلقي كشف لي عن حاجتي بأن أعيش أكثر في حيز اللحظة، وأنه لا وقت الآن لندم الماضي أو مخاوف الغد.
تعلمت أنه لا يمكن تجنب الألم! وان الطريق الوحيد لتجاوز الألم- كما يقولون- هو عبر الألم نفسه.
أتذكر الآن كيف شعرت بالرعب بعدما داهمني أول شعور بالخفة، وأول نظرة للنور! كنت كمن كشف عنه الغطاء، فبعد أعوام من الظلمة، كنت أخشى الظلام كخشية الموت، أخشي ان يتركني مرة أخرى لغياهب الاكتئاب!
ولكني اليوم أعلم يقينا، أن الحزن يمر- وأيضا الفرح! لا مفر من ذلك - لكن الحزن لن يكون أبدا كهف أعتزل فيه.
أعلم أني لن أترك البحر بداخلي كي يهدأ أو يستكين، أعلم أن الحزن ليس نقيضا للحياة بل جزء منها!
وأننا نحتاج أن نحزن حتى نتهذب، حتى ندرك الفرح ويدركنا كل مرة وكأنه اللقاء الأول.
نحتاج أن نتذكر أن لكل منا هالة من نور تضيء قلوب الكثير بأعمالنا، وأننا حينما نزيدها نستزيد منها.
ولأجل هذا الشعور بالخفة، والبعث في ثوب جديد، من أجل هذه النسخة المحسنة التى لا ترجو سوى المزيد من لطف الله بعباده، أشهده سبحانه ولى عباده ونصيرهم اني رضيت بالبلاء وارتضيت بلطفه ورحمته بي. وأني غفرت لنفسي وسامحتها. عساه يزيدني من كرمه ونوره لمزيد من السلام! وقل الحمدلله الذى أذهب عنا الحزن ان ربنا لغفور شكور.
فمساء الخير من أجلي ومن أجل قلبي. ومن أجل هذه الولاء التي أزاحت بيدها- بعد فضل الله وكرمه- هذه البلاء!
تعليقات
إرسال تعليق